] التميّز الإنساني
الاقتباس (تغيير الصورة)
الاقتباس (تغيير الصورة)
وأمدّ الله الإنسان بقدرات بالغة في عظامه والروابط التي تشدّها؛ فهو يستطيع أن يركض بسرعة تصل إلى 40 كم / ساعة، كما يستطيع أن يرمي كرة بسرعة 160 كم / الساعة، وأن يقفز 7 أقدام.
أما الروابط التي تشدّ عظامه فتستطيع أن تتحمل ضغطاً يبلغ 8 طن / البوصة المربعة، بينما تستطيع عظام الفخذ تحمل ضغط 2/1 طن للبوصة المربعة أثناء المشي، مع العلم أنّ الإنسان يمشي 12.000 كيلو متر في متوسط حياته كلها إذا كان يعيش في المدن، وهو ما يعادل قطر الكرة الأرضية، بينما يمشي أربعة أضعاف الرقم السابق أي 48.000 كم – أي 50 مليون خطوة- إذا كان يعيش في الريف. فكم خطوة خطاها العبد الصالح في سبيل الله؟
إن الله لم يمنح الإنسان القدرة على العَدو كسرعة الحصان، ولا صبراً على المشقة كصبر الجمل، ولا أجنحة يُحلّق بها كأجنحة الطير، ولا أنياباً ومخالب كأنياب الأسد، ولا أعيناً ميكروسكوبية (مكبرة) كأعين الحشرات الدقيقة( للعنكبوت 8 أعين مركبة، ولحشرة اليعسوب 28.000 عين مركبة، وللنحلة زوج من العيون المركبة تحوي كل عين منها 5.000 عوينة)، وللذبابة 3 عيون بسيطة تختوي كل عبن منها على 4000 عيينة ، ولا بصراً تلسكوبياً (مقرباً مكبراً) كبصر الصقور، ولا غرائز هادية كغرائز النحل والنمل والحمام الزاجل ونحوها.
ولكن الواقع أنّ الإنسان أُعطاه الله ما هو أعظم مما أعطيته هذه الأمم من الحيوانات والدواب والطيور مجتمعة، فقد أُعطاه الله العقل المفكر كما أُعطاه الله الروح المبصر. ووهبه الله العقل، وقوة النفس، وصفاء الروح، وسلامة الحواس، ليعرف قيمة إنسانيته، وليدرك، من ثم، عظمة هذا الكون واعظم منه نعمة الله.
يقول كريسي موريسون في كتابه ” الإنسان ليس وحيداً”: “إنّ العقل واحد من سبعة أبواب للإيمان بالله، وإنّ في الإنسان أكبر من غريزة الحيوان، ذلك هو قدرة العقل .. فبفضل العقل البشري نستطيع أن نتأمل في الرأي القائل بأننا ما بلغنا لأننا تلقينا قبساً من ذلك العقل الشامل”.[1]
ويقول الدكتور عبد العلي الجسماني في كتابه ” القرآن وعلم النفس – الإدراك الإنساني: إن الإنسانية من وجهة نظر إسلامية اعمق مفهوما وأشمل دلالة من اعتبارها نزعة فكرية تبدي الاهتمام الأول بالإنسان وملكاته وشؤونه وأمانيه الزمنية وخيره، لأن الإنسان لا يحيا بالفكر وحده، ولا بالعقل وحده، وإنما يبقى متلهفاً إلى ما هو روحي. فالجمع بين الحياتين الدنيوية و الحياة الأخرة يجعل الإنسانية أكمل، ويحمل الإنسان على يكون أكثر اتزاناً وأوفر توازناً “.[2]
ويضيف أيضاً: “ولقد حبا الله الإنسان بحاسة يطلّ بها على العالم، وأنعم عليه بعقل يؤّول ويفسّر، وأنّ العقل يتدرج في سلم المعرفة من المحسوسات الجزئية والكلية إلى الأفكار الكلية، وأنّ العقل الإنساني قادر على أن يدرك أن وراء هذه الموجودات خالقاً مدبّراً، وأنه قادر على إثبات وجود الله بآثاره في مخلوقاته ومن ثم إقامة الأدلة الصادقة على ذلك. وأنّ الإنسان كذلك قادر بعقله على إدراك أسس الفضائل وأصول الأخلاق العملية والاجتماعية والتحلّي بها، وهذا من متممات تكريم الإنسان.
وأنّ كل الحكمة هي في توفير المعرفة ومخاطية الناس على قدر عقولهم. وأنه عندما يؤمن العقل لا يطمئن، ولا تطمئن النفس معه حتى يؤمن بوجود الله العلي الكبير- خالق السماوات والأرض والإنسان ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحشر:24]. فالارتقاء من المحسوس إلى المعقول إنما يمثل في حياة الإنسان سياحة عقلية ذاتية، بها تتم تحلية المشاكل، وتعميق الثقافة في الأذهان، وإدراك الظواهر الباهرات، التي يتملّاها العقل وصولاً إلى القدرة الجبارة التي أبدعت الخلق والعقل معاً “.[3]
“والإنسان وحده هو الذي يتطوّر عقلياً وشعورياً، وتتطوّر معه بيئته الطبيعية والاجتماعية، ومن ثم فإن العلاقة بين حياة الإنسان الفكرية والشعورية – والإدراكية الحسية – وبين حياته الخارجية في بيئته المادية أدق واعمق مما يتراءى للمرء غير المدقق” .[4]
والإنسان بروحه وبنفسه وعقله وفكره وبحواسه وحيويته وبطاقاته وكينونة وجوده تواقّ إلى أن يعرف شيئا مما في هذه الآفاق التي لا حدود لها، ولكن لا بد له من عقيدة راسخة في رصده حقائق ما يحيط به من مكونات هذا الكون اللامتناهي .
فلقد استطاع الإنسان بعقله أن يستأنس الثور والحصان والجمل، وغيرها من الدواب الضخمة في حجمها، القوية في بدنها، وأن يُسَخِّرها في حاجاته ومعيشته. فقد استطاع أن يصنع لها عجلة تجرها، فتضاعف قوتها وسرعتها، وبهذا أطال الإنسان في سيقانها، وقوّى من ظهورها.
واستطاع الإنسان بما اخترعه من أجهزة ميكانيكية أن يطوي المسافات الشاسعة في الزمن القليل، وأن يضرب بين القارات حتى جعل العالم (قريته الكبرى)، وأن يجعل كل عمله اليدوي إدارة الأجهزة والسيطرة عليها.
واستطاع أن يغوص في البحار كالحيتان، وأن يُحلِّق في الهواء كالطيور، بل لقد فاق الحيتان وسبق الطيور.واستطاع أن يصنع (ميكروسكوباً) كهربائياً يرى به (بكتيريا) كانت غير مرئية، بعد مضاعفتها مئات الألوف من المرات، بل يرى الكائنات الصغيرة التي تعضّها.
كما استطاع بتلسكوبه أن يبصر (سديماً) بلغ من الدِّقة والصغر أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره بلايين المرات ليراه، وأن يحدد عمره وإشعاعه وبعده عنا، وأن يحدد أبعاد ومواصفات نجوم ومجرات على بعد بلايين السنوات الضوئية.
“ولقد عرف الناس واستفادوا من التقدم العلمي ووجدوا منتجاته تملأ الدنيا، وأصبح باطن الأرض وسطحها بعض مجالاتهم، وصار الفضاء والأجرام السماوية مما يرتادون، وقارب من أبعاد هذا الكون مسافة واطلاعا وخبراً، وأراح كثيرا من الناس في مغداهم ومراحهم، وحوّل وسائلهم الأولى من بطء وقلة ما تعطيه عضلات الكائن الحي – إنسانا وحيوانا – من طاقة إلى سرعة ووفرة مما تعطيه الآلة من إنتاج . كما استطاع الإنسان – بواسطة التقدم التقني – أن يتحكم في ظروف بيئته ومناخه، مما كان التحكم فيه في الماضي ضربا من الخيال؛ فتغلب على قسوة المناخ بالتدفئة والتبريد، وعلى وعورة الطريق بالسيارات والقطارات، وعلى تباعد المسافات بالطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية، وعلى كثرة العدد بغزارة الإنتاج” .[5]
ولم يمنح الله الإنسان حاسة فائقة للسمع كما أعطاها الحيوانات التي تسمع أصواتاً خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، ولكنه استطاع بفضل وسائله أن يسمع ذبابة تطير على بُعد ملايين الأميال، كما لو كانت فوق طبلة أذنه، ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يُسجِّل وقع شعاع الشمس وضوء القمر. أليس الله هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه؟
وقد تمكّن الإنسان من تسخير وتذليل الله الأرض له للانتفاع بخيراتها والتفيؤ بظلالها، والأكل من أرزاقها، والغوص في أعماقها، والسير في أرجائها، واستخراج كنوزها.
فقد تحكّم الإنسان في قوة الطبيعة؛ فنسف الصخور، وشقّ الأنهار، واستخدم البخار والغاز والكهرباء، وصهر المعادن، وفتّت الذرات، واستنبت النبات، واكتشف أسرار الكائنات، وتمكّن من أن يسبر أعماق المحيطات، وأن يخترق أجواء الفضاء، وأن يهبط على سطح القمر، وأن يغزو الكواكب، وأن يخرج من خلال مراكبه الفضائية خارج منظومتنا الشمسية، وأن يفجّر الذرة محدثاً طاقات مدمرة، وأن يصنع أجهزة الحاسوب والأجهزة الخلوية ، وأن يطالع الملايين من الكتب والأبحاث والفهارس والموسوعات والعلوم، وأن يقوم بترجمة كل ما أنتجته عقول العلماء إلى سائر لغات الأرض، وأن يقوم بمراسلة ومخاطبة الملايين من البشر والمؤسسات والتقاط صورهم عبر الشبكة العنكبوتية التي يستطيع استخدامها في أي زاوية من الأرض.
كما استطاع أيضاً أن يسمع في آن واحد ما يدور في أقصى الأرض، وأن يرى ما يجري في آخر الدنيا وفي أعماق البحار، كما وهبه الخالق الجليل القدرة على إسقاط الأمطار بوسائل صناعية، وأن يعالج المرضى بطرق جديدة لم يعهدها الآباء والأجداد بل عدّوها أحلاماً وأي أحلام؟ وأن يرى كذلك ما في أعماق جسمه وقلبه ومخه.
كما استطاع أن ينقل قلوب الموتى إلى الأحياء بل وأن ينقل أعينهم وأكبادهم وكلاهم، وأن ينشر الرعب في نفوس إخوانه من بني البشر بما كسبت يداه من قنابل وصواريخ وما هو أدهى وأمر. وأحسن ما في هذا الإنسان عقله، وعمليات تفكيره، وما تنقله أعصابه الحسية من إشارات وأوامر. ولكن أعجب العجب في هذا الإنسان هو هذه الروح – سر الحياة – التي سيطرت على هذا الجسم المادي فأحالته حياً بعد موت، ناطقاً بعد صمت، مبصراً بعد عمى، سامعاً بعد صمم، متكلماً بعد عيّ، عالماً بعد جهل، مهتدياً بعد ضلال.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ã﴾ [النحل: 78]. والله جعل حسن استعمال الملكات العقلية وتوظيفها فيما خلقت له، وشكر الله عليها طريقاً تربط صاحبها بملائكة الله وبالكرام البررة وتوصل صاحبها المراتب العلى من الجنة. وجعل طلب العلم طريقاً إلى الجنة، وجعل العلماء ورثة الأنبياء. وجعل الراسخين في العلم هم الذين يعقلون آيات الله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
[1] من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة د. موسى الخطيب، ص 130 -131، دار الكتاب العربي – 1994م
[2] القرآن وعلم النفس الإدراك الإنساني د . الدكتور عبد العلي الجسماني الدار العربية للعلوم – 1997 – ص 37
[3] القرآن وعلم النفس الإدراك الإنساني د . الدكتور عبد العلي الجسماني الدار العربية للعلوم – 1997 – ص 115 – 116
[4] الإسلام والثورة الحضارية – د . عون الشريف القاسم – دار القلم – بيروت – 1400 هـ 1980 م – ص 65.
[5] هذا الكون – ماذا نعرف عنه – د.- راشد المبارك – دار القلم – دمشق – ص 253 – ط2 – 1426هـ – 2005 م.