للقران الكريم عناية خاصة بالجمال، فالقرآن بذاته يشكل تحفة فريدة من تحف الجمال تعتبر من حيث بديع اللغة وبراعة الأسلوب وسحر البيان، وهذا ما شهد به أهل الذوق وخصوم الإسلام ومعاندوه، و لا يزال قول الوليد بن المغيرة شاهداً على ذلك حيث وصف القران الكريم بقوله: “وان عليه لحلاوة وان عليه لطلاوة وأنه لمنير أعلاه ومشرق أسفله، وانه ليعلو ولا يُعلى عليه”. ولا يزال الخط القرآني والرقعة القرآنية أجمل الخطوط في كل لغات العالم لا يدانيها فيها خط آخر مهما كان نوع الخط الذي يكتب به. والله سبحانه يحب الجمال ويرضاه، ومن هذا الحب والرضى أن يرى أثر نعمته على عباده، فجمال الباطن هو دوام الشكرعلى النعم ، بينما يتمثل الجمال الظاهر أن يرى الله على عبده الجمال الظاهر بالنعمة بحسن استخدامها.
ولمحبة الله للجمال فقد أنزل على آدم وزوجه لباسا وزينة من السماء تجمّل ظواهرهم وتقوى بواطنهم ؛ فقال : “ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ” الأعراف 26.
وكما جمّل أهل الأرض فقد جمل وجوه أهل جنته بالنضرة وبواطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير. قال تعالى : “ ولقَّاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ” ( الإنسان 11 – 12).
والله سبحانه يحب الجمال وأهله في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة: قال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ” صحيح مسلم رقم 4651 .. وفي الحديث : ” البذاذة من الإيمان ” رواه ابن ماجه 4108 وأبو داود 3630 وصححه الألباني.
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه رقم 131 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ .
و قال ابن القيم رحمه الله شارحا ومبيّنا قوله في الحديث ” إن الله جميل يحب الجمال” فيتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء .ففي صحيح مسلم برقم 1686 : ” إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ” ، وفي سنن الترمذي ” إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ” رواه الترمذي برقم 2963 وقال حسن صحيح .
وعن أبي الأحوص الجشمي قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعليَّ أطمار فقال هل لك من مال قلت نعم، قال من أي المال قلت من كل ما آتى الله من الإبل والشاه، قال فلتر نعمته وكرامته عليك ” رواه أحمد برقم 15323 والترمذي 1929 والنسائي 5128.
وللجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع ؛ فمنه ما يحمد ومنه ما يذم ومنه مالا يتعلق به مدح ولا ذم ، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال فيه فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء ، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه، والله سبحانه وتعالى يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، ويذمّ جمال الصور وتمام القامة والخلقة إذا خلت من معاني الإيمان والتقوى، فقال عن المنافقين: ” وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ” المنافقون 4، وقال عن الأمم الكافرة التي أهلكها : ” وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” مريم 74 أي أموالا ومناظر. وأما مالا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين .
و يشتمل الحديث الشريف ” إن الله جميل يحب الجمال” على أصلين عظيمين: فأوله معرفة وآخره سلوك، فيُعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق. فيحب الله من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ ، أي أن يعرفه سبحانه وتعالى بصفات بالجمال، ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، أي يعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين معا: المعرفة والسلوك . (الفوائد لابن القيم 1/185 )