الإنسان خليفة
قال تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة· قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك· قال إني أعلم ما لا تعلمون
قال تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة· قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك· قال إني أعلم ما لا تعلمون
قال تعالى: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة· قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك· قال إني أعلم ما لا تعلمونü وعلّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقينü قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيمü قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمونü وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرينü وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغداً حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمينü فأزّلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌ، ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاع إلى حينü فتلقّى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيمü قلنا: اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم مني هدىً، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونü والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 03-93]·
إن أول ما يلفت في موضوع خلق الإنسان كما ورد في القرآن الكريم هو ذلك الحوار الذي دار بين مالك الملك وبين الملائكة وجاء ذكره بالتفصيل لحيوية هذه القضية وأهميتها بالنسبة للإنسان فلولا إخبار الرحمن الرحيم لنا به ما علمنا عنه شيئاً وما علمنا كيف، ولا لماذا خلقنا؟·
ويبدأ الحوار كما جاء ذكره في الآية التالية: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} إنه قرار الخالق البارئ اتخذه جَلَّ شأنه بنفسه، وعظمة الحليم العظيم تتجلى في رغبته في إطلاع الملائكة على هذا القرار حتى من قبل أن يخلق هذا المخلوق الجديد، والعلم والاكتشافات تخبرنا بوجود مخلوقات كثيرة على الأرض قبل آدم خلقها الحي القيوم لتملأ الأرض وتحلق في السماء، وتسبح في الماء كذلك خلق البديع الباقي الجن قبل آدم {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنونü والجانَ خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: ] 26-27·]
ولكن القرآن الكريم لم يذكر لنا أي حديث سابق بين ذي الجلال والإكرام وبين الملائكة يحمل خبر عزمه على خلق أي مخلوق من تلك المخلوقات الأخرى، فخلق الإنسان إذن كانت له أهمية خاصة تفوق أهمية خلق أي كائن حي آخر عاش على الأرض بل وربما في أقطار السماء· إنه أول تكريم من الخالق العظيم لهذا الكائن الجديد، تكريماً يعكس المنزلة الرفيعة التي حجزها البديع الباقي لهذا الإنسان حتى قبل خلقه·
والله سبحانه وتعالى اختار كلمة خليفة كصفة لهذا المخلوق الجديد، ولم يصفه بالسيد ولا بالرئيس ولا بالملك بل وصفه بالخليفة، وهذه الكلمة تعبّر بصورة أدق عن مهمة الإنسان على الأرض·
فالخلافة تشمل الإمارة، ولا شك أن الإنسان أمير الكائنات الحية على الأرض فقد عرف كيف يتغلب على أضخمها من الحوت والقرش، ويستخدم أقواها مثل الفيل والحصان· فبالرغم من قوة هذه الحيوانات الجسمية تراها كلها مذللة للإنسان بل مذللة لصبي صغير يقودها إلى حيث يشاء ويضربها وينهرها وهي مطيعة راضية لا ترد الصاع الصاعين ولو أنها قادرة على ذلك·
كذلك عرف الإنسان كيف يتفادى سموم أخطرها من الزواحف والكائنات الميكروسكوبية أمثال الفيروس والبكتيريا، بل ويستخدم بعض هذه السموم كأدوية وعقاقير وعرف كيف يؤلف الكثير منها ويربيها للحمها ولبنها ووبرها، لقد جعل الله في الإنسان صفة الإمارة على هذه المخلوقات يأمرها فتنصاع له وتطيعه·
والخلافة تشمل أيضاً النيابة عن الغير، فلقد أناب الحكيم الودود الإنسان للقيام بمهام معينة وكلفه برسالة محددة في حدود نواميس موضوعة وتبعاً لخطة سابقة منه· فالإنسان يستطيع أن يغير من معالم الأرض كيف أراد فيبني على الأرض المباني أو يستخدمها للفلاحة، وأن يستخرج من الصحراء بترولاً وكنوزاً وخامات، أو يحولها إلى جنات وزروع، وأن يغيّر مجرى الأنهار ويحول الليل إلى نهار وأن يثقب الجبال ويزيل من أمامه الهضاب والتلال·
والإنسان بإمكانه أن يعيش مع المخلوقات الأخرى في سلام ووئام أو يقتلها ويملأ الأرض بالدماء وبإمكانه أن يزخرف الأرض ويزينّها أو يفنيها بمن فيها في يوم وليلة·
وقد وهب الوهاب الخبير للإنسان من الصفات والخواص ما يجعله قادراً على التحكم في هذه النيابة بحكمة فأعطاه العقل والضمير وجعله مسؤولاً عن استخدامها في حدود إمكانياته·
والخلافة تشمل أيضاً الإمامة، فالإنسان بحكم هبات الخالق له من مقدرة على التفكير والتدبير والتصميم أصبح إماماً للكائنات لا يسمح لأي منها إلاّ أن ينصاع لأمره ويتبع خطاه· فإذا أراد الإنسان للكائن الحي أن يعيش خادماً مطيعاً أو أن يموت صاحباً أميناً كان له ذلك، وإذا أراد أن ينقلها من مكان إلى مكان كما يحلو له فلن يستطيع أحدها أن يبدي اعتراضاً أو أن يقوم بثورة ضد الإنسان: فحياته ومأكله ومشربه مربوطة بهذا الإمام·
إن المشيئة العليا هي التي قررت أن توجد هذا الكائن الجديد، وهي نفسها التي قررت أن تسلّمه زمام هذه الأرض، وتطلق يده فيها، ليكتشف ما وضعه الخالق فيها من أسرار ونواميس، ويكشف ما فيها من موارد وطاقات ثم ليستخدم ذلك كله لفائدته ومصلحته ورقيه وتطوره· ومن أجل أن تساعده في القيام بالمهام الضخمة التي وكلها الله إليه ألا وهي الخلافة على الأرض·
ولكن الملائكة يستفسرون في أدب وتعجب: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} وسؤال الملائكة يدل على أن لهم تجارب سابقة مع مخلوقات أخرى عاشت على الأرض وأكثرت فيها الفساد وسفكت الدماء· وقد تكون هذه المخلوقات هي أنواع الإنسان والقرد أو إنسان الغاب التي سبقت ظهور الإنسان على الأرض والتي لم يكن همها إلاّ سفك الدماء إمّا للدفاع عن النفس وإما لملء بطونها الخاوية· ومن يعلم فربما كانت هذه الحروب بين الفصائل المختلفة أو بين أفراد الفصيلة الواحدة هي أحد أسباب الانقراضات المتتالية التي حدثت لكل أنواع الإنسان القرد فأنهتها عن آخرها·
ومن ناحية أخرى لقد وجدنا في المستحاثات ما يثبت بأن الإنسان القرد كان على معرفة بالنار وباستخدامها، وليس معنى ذلك أنه تعلم طريقة إشعالها أو التحكم فيها· بل من الأرجح أنه كان أكثر اعتماداً على مصادر النار الطبيعية مثل الصواعق· وربما دفعته رغبته في استخدام النار من ناحية وجهله بإشعالها والتحكم فيها من ناحية أخرى إلى إيقاد شعلات دائمة في الأخشاب والأشجار لتكون مصدره الدائم، فتسبب ذلك في حرق كثير من الغابات والنباتات وربما سبب انقراضاً في أنواع معينة من الكائنات الحية من فصائل ذلك الإنسان القرد ومن فصائل أخرى·
وكان نتيجة ذلك أن عمّ الفساد في الأرض بسفك الدماء من ناحية وبإشعال الحرائق من ناحية أخرى· فكان ذلك سبباً كافياً لتشكك الملائكة في إمكانيات هذا المخلوق وفيما سوف يقوم به، وخاصة إذا كانت الملائكة لم تر أي شيء إيجابي قام به هذا الإنسان القرد· فكان هذا الاستفسار الذي يحمل في طياته التعجب والدهشة مقروناً بتجربتهم المريرة ومشاهداتهم السابقة·
وعندئذٍ جاءت إجابة العليم البصير {إني أعلم ما لا تعلمون} فهو وحده الذي يعلم خواص هذا الكائن الجديد ، وهو وحده يعلم بإمكانياته فهو الذي سيضعها فيه، وهو وحده الذي يرى ما سوف يقوم به هذا الكائن من إنجازات في بناء هذه الأرض وعمارتها وفي ترقيتها وتعديلها·
قد يفسد الإنسان أحياناً ويسفك الدماء أحياناً أخرى ولكن هناك خيراً أعم وأشمل سيتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر على يدي ذلك الخليفة· خير النمو الدائم والرقي المستمر، خير التطوير والتغيير في هذا الملك الكبير، خير المعرفة التي تتضاعف والإمكانيات التي تزداد، خير العزيمة التي لا تضعف والمحاولة التي لا تكفّ، خير التفكير الذي لا يهدأ والتطلع الذي لا يقف، والمحرك الأساسي لكل ذلك هي تلك الغرائز الأساسية التي خلقها الظاهر الباطن فيه وثمرتها عند أولي الألباب هي معرفة صفات القدرة والكمال لدى العزيز الحكيم والرحمن الرحيم وعبادته عن علم وتقواه حق تقاته·
كل هذا كان في علم الغيب فلم تعلم الملائكة عنه شيئاً فكان جواب الملك القادر بأنه وحده يعلم الغيب {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله وما يشعرون أيان يبعثون} [النمل:65] وإلى جانب إخبارهم بهذه الحقيقة أعد الغفار القهار للملائكة إيضاحاً وإثباتاً عملياً لقوله تعالى·(1)
ويقول المرحوم الشيخ محمد متولي شعراوي معقباً على قول الملائكة: {ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك} أي إن الملائكة يقولون: يا رب أنت قادر على أن تخلق خلقاً مسخرين يسبحون بحمدك بدلاً من خلق مخيرين يفسدون في الأرض ويكفرون بالله، وهذا القول قد قاله الملائكة في أنفسهم، ولم يجهروا به، وهذا يدل على أن الملائكة لم تفهم مرادات الله من خلق الإنسان، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق ما يشاء مسخراً لعبادته وتسبيحه، ولكن الله يريد خلقاً يأتيه طواعية واختياراً، يأتيه عن حب ورغبة، لا عن قهر ورهبة·· مخلوق قادر على أن يفعل المعصية ولكن لا يفعلها حباً في الله · · مخلوق قادر على ألا يقوم بالطاعات والعبادات ولكنه يقوم بالطاعات والعبادات حباً في الله·· مخلوق قادر زُينت له الدنيا وزينت له الشهوات فأصبحت محببة إلى نفسه ولكنه يتركها لأن حبه لله أكبر، هذه هي مرادات الله من خلق الإنسان وتحميله الأمانة في أنه يأتي لطاعة الله وحب الله؛ وهو قادر على ألا يأتي؛ ولذلك أعد له من النعيم في الآخرة ما لم يعدّه لأحد من خلقه، جزاء له على طاعته، وأعدّ له من العذاب ما لم يعدّه لأحد من خلقه عقاباً له على معصيته·
ولذلك قال الله سبحانه وتعالى للملائكة: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}·
أي إن الله سبحانه وتعالى هو العليم بمراداته وأن الملائكة حينما ظنوا أن الله سبحانه وتعالى يريد خلقاً يسبح بحمده مقهورين لم يكونوا يعلمون علم الله سبحانه وتعالى في أنه يريد خلقاً يأتونه طائعين مختارين، وعدم علم الملائكة مرادات الله هو من تمام علم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى محيط بعلم الملائكة، والملائكة لا يحيطون بعلم الله·(1)