اهتزاز الأرض بين العلم والقرآن
الاقتباس (تغيير الصورة)
الاقتباس (تغيير الصورة)


قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
يُعدّ إنزال المطر من نِعَمِ الله تعالى على البشرية، وتعظم هذه النعمة عندما يشتد القحط وتجفّ التربة؛ فإذا نزل المطر صاحَب ذلك النزول ظواهر عديدة، ومن هذه الظواهر التي تحصل في التربة الاهتزاز الذي يحصل لحبيبات التربة ومن ثم الانتفاخ وخروج الأوراق والثمار، والطين من الغرويات المعدنية التي تتمتع بكثير من صفات الدقائق الغروية، ومن ثم فعند نزول الماء على الأرض بكميات مناسبة يؤدي إلى اهتزاز حبيباتها.
وقد أصبحت هاتان الظاهرتان أمراً معروفاً لا خلاف فيه بين العلماء اليوم، ولكنها كانت أمراً يستحيل معرفته قبل توفّر الوسائل العلمية الحديثة، ولكن القرآن الكريم ذكر هاتين الظاهرتين قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وفي وقت خلا من أبسط العلوم والوسائل التي يمكن أن ترشد إلى ذلك، ولا يمكن أن يكون هذا الإخبار إلا من عند الله خالق الماء والتراب والنبات.
وقد عزا بعض المفسرين السابقين الاهتزاز للنبات وليس للأرض، وهذا تأويل للآية على غير ظاهرها، وكل ذلك بسبب نقص المعلومات في زمنهم؛ فالاهتزاز على مستوى التربة وحبيباتها خفي لا تراه العيون المجردة، مع أن الآيتين الكريمتين صريحتان في نسبة الاهتزاز إلى التربة نفسها بعد إنزال المطر عليها.
ومن أسباب اهتزاز التربة وانتفاشها وربوها أنها تتكون من معادن صلصالية، وأكاسيد الحديد، وكربونات الكالسيوم والمغنسيوم وغيرها، وهذه المعادن تتشبع بالتميؤ أي بامتصاص الماء، مما يؤدي إلى زيادة حجمها زيادة ملحوظة فيؤدي ذلك إلى اهتزازها بشدة وانتفاضها فتؤدي إلى اهتزاز التربة بمجرد نزول الماء عليها، وتفصل بين هذه الرقائق مسافات بينية مملوءة بجزيئات الماء والغازات، وعند التسخين تطرد هذه الجزيئات، فتنكمش تلك الرقائق بطرد هذه الجزيئات البينية، وعند إضافة الماء إليها تنتفض، وتهتز وتربو نتيجة لملء المسافات البينية الفاصلة لرقائق المعدن بالمياه، وتتدافع فيها جُسيمات المادة بقوة في حركة دائبة تُعرف باسم الحركة البراونية نسبة إلى مكتشفها، -عالم النبات روبرت براون- عام 1827م، وهي من عوامل اهتزاز التربة بشدة وانتفاضها، وتشير كلمة (اهتزّت) الواردة في الآية الكريمة إلى التأثير المباشر للماء على حبيبات التربة، حيث يحل الماء محل الهواء الذي ينطلق من ثقوب محددة إلى الهواء الجوي على هيئة فقاقيع متقطعة، بينما تشير كلمة (ربت) إلى الانتفاخ والنمو وازدياد في السمك وبالتالي زيادة حجم الأرض نتيجة زيادة أحجام حُبيباتها.
وأما (أنبتت) فتشير إلى عملية إنبات البذور وغيرها مما تحويه الأرض، وهذا يوحي بخروج الحي من الميت كما في قوله تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9].
وجوه الإعجاز:
أخبر القرآنُ الكريم عن اهتزاز التربة وربوها بعد نزول الماء عليها، وهما عمليتان دقيقتان غير مشاهدتين ولا محسوستين، ولا يمكن إدراكهما إلا من خلال استخدام المجهر الإلكتروني، ولا تحصل عملية الاهتزاز والربو لحُبيبات التربة إلا بنزول المطر، وهذا الاهتزاز يمكّن الماء بإذن الله تعالى من التخلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات، فتنتفخ الحبيبات ويزداد حجمها وتصبح مخازن للماء يستفيد منها النبات، حيث تتشرب البذور الموجودة في التربة الماء وتنبت، وتمتصه الشعيرات الجذرية للنباتات فتنمو برحمة الله، وتفاصيل العلاقة بين اهتزاز حبيبات التربة ورَبْوها وإنبات الأرض خفية لم يدركها الإنسان إلا بعد تقدم علم التربة وتطور أدواته المعملية، وقد كانت أول ملاحظة للاهتزاز في عام 1827م على الرغم من أن الميكروسكوب الضوئي، وهو الأداة التي لوحظ من خلالها الاهتزاز قد اخترع عام 1590م، كما أن الميكروسكوب الإلكتروني الماسح والذي يمكن استعماله في فحص الاتحادات البنائية المكونة لحبيبات التربة لم يخترع إلا في عام 1952م.
وخلاصة القول: إنّ حُبيبات التربة عند اختلاطها بالماء تهتز وتتحرك جزيئاتها غير محددة لاتجاه معين، ويعني ذلك أن الأرض (اهتزّت)، وعملية ترسيب الماء بين طبقاتها يزيد من سُمك وحجم الحُبيبة، وبالتالي كل الحُبيبات، وهذا يعطي معنى (ربت) وانتفخت لتخزين الماء اللازم لإحياء الأرض، فتتشرب البذور وغيرها، وينبت الجنين تحت سطح التربة ببزوغ الجذير والريشة، وبذا تكون الأرض قد (أنبتت)، وها نحن نرى بذوراً بلغت من الصِّغَر مبلغاً لا تكاد تُرى إلا بأدقّ المجاهر أو إذا كانت البذور كبيرة فإنه ينطبق عليها نفس السنن الإلهية فتدبّ فيها الحياة من جديد، ومثال ذلك بذرة الخردل التي يبلغ وزنها (912/1) غم، وبذرة زهرة Orchid البالغ وزنها (6-10*81.) غرام حيث يبلغ وزن الغرام الواحد منها حوالي (1.341.000) بذرة، وكذلك يصل وزن بذرة بعض أنواع جوز الهند Cocos (18) كيلو غرام، ومحيطها (90) سم. وقد اكتشف العلماء بذور نخل عمرها (2.000) عام وأعيدت زراعتها من جديد فأنبتت شجرة نخل أخرى.
ويظهر بعد ذلك التنبّت فوق سطح التربة، ثم يكبر الخضر ويثمر معطياً رزقاً للعباد؛ غذاء ودواء وجمالاً وبهجة للناظرين، وتتم جميع آيات الخروج السابقة وفق ترتيب محكم وزمن مبرمج لكل نوع من أنواع البذور التي خلقها الله، وهذه العمليات جميعاً هي من سُننه تعالى في الاهتزاز والربو والإنبات، وهي سُنن لا تبديل فيها ولا تغيير، كما أنها من آيات الله ومن آثار رحمته وقدرته تعالى {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
وكل ذلك دليل على إعجاز هذا القرآن، وأنه كلام الله الذي وسع كل شيء علماً، وخلق كل شيء فقدَّرهُ تقديراً.