القرآن والكون والإنسان

والمسلمون اليوم بأيديهم وحي السماء المحفوظ بحفظ الله كلمة كلمة وحرفاً حرفاً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وعليهم اليوم تسخير العلم النافع بجميع إمكاناته –ولا سيما العلماء منهم– فإنّ حياتنا في عصر العلم؛ العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى قَدرٍ من المعرفة بالكون ومكوّناته لم تتوفر أبداً في أي زمن من الأزمان السابقة

تُواجه البشرية الآن ثورة في العلوم والمعرفة اقتحمت البيوت والمدارس والجامعات ومراكز الدراسات والأبحاث، وغدا العالم اليوم قرية علمية صغيرة ولكنها عموماً تُضاءُ بقناديل لا توقد من شجرة مباركة ولا تستضيء بنور الله ولا تهتدي بهُداه.

والمسلمون هم أوّل من حمل رسالة العلم والقراءة إلى الإنسانية كافة؛ فقد قاموا بهضم حضارات الأمم السابقة، وأقاموا الحضارة الإسلامية الوارفة الظلال التي استظل أهل الأرض جميعاً بظلالها لما يزيد على ألف عام.

وكان كتاب الله تعالى وحديث رسول الله r نبراسهم في ذلك يحدوهم قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، فكانت هذه الآيات وأمثالها الكثيرة معالم بارزة للمسلمين في البحث والاستقراء وإثبات الإعجاز العلمي لهذا الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والمسلمون اليوم بأيديهم وحي السماء المحفوظ بحفظ الله كلمة كلمة وحرفاً حرفاً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، وعليهم اليوم تسخير العلم النافع بجميع إمكاناته –ولا سيما العلماء منهم– فإنّ حياتنا في عصر العلم؛ العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى قَدرٍ من المعرفة بالكون ومكوّناته لم تتوفر أبداً في أي زمن من الأزمان السابقة، فإن العلم له الطبيعة التراكميّة، والخالق العليم سبحانه أعطى الإنسان من وسائل الحس والعقل ما يعينه على النظر في الكون واستنتاج سنن الله في نفسه وفي آفاق الكون من حوله، وإذا كان العلم يقودنا إلى الإيمان، فإننا ونحن نعيش هذه الأيام عصر العلم، فإن الغد –بإذن الله– سيكون عصر الإيمان.

وكلما بحث الباحثون في أي اتجاه وجدوا أنفسهم أمام آية من آيات الله وردت في كتابه العزيز أو  في حديث رسوله محمد r يشهد بها علمهم، ويصل إليها بحثهم، ومن أجل هذا جعل الله سبحانه وتعالى العلم طريقاً إلى الإيمان فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله} [محمد:19]، وذلك مما يزيدنا تمَسُّكاً بديننا حتى يُثبِّت الله أقدامنا ويستخلفنا أعزاء في الأرض لنرفع رايته عالية فوق الآفاق.

ويتضمن المنهج الإيماني استعمال أدوات العلم والتفكر فيما خلق الله، في حين يتضمن منهج أهل الكفر تعطيل أدوات العلم عند التفكر.

إن مقدار علمنا بالله هو الذي يثمر الخوف منه، {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28]، فمن أراد أن يزداد علماً فعليه أن يكثر من التفكير في آيات الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 – 191]. ويقول تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101].

 الكون والقرآن في المنظور الإلهي :

كانت هناك محاولات علميّة منهجيّة لتفسير بعض الظواهر الكونية؛ فقد سجَّل التاريخ أن الحضارة البابلية فيما بين النهرين، والحضارة الفرعونية في مصر القديمة: قد اهتمَّتا برصد حركات الأجرام السماوية، واستخدام العمليات الرياضية لمعرفة الروابط بينها، وبالفعل فإنهم قد توصلوا إلى بعض المعلومات الدقيقة عن الشمس ومجراها، وعن مراحل القمر المختلفة، وعن ظهور واختفاء بعض الكواكب بصور دورية.. وإن كان قد صاحب هذه الملاحظات بعض التفسيرات الموغلة في الخرافات والأساطير.

وكان الإنسان في الماضي غير البعيد، يعتقد أن الأرض هي مركز الكون.. ومناط الأهمية فيه، وأن كل ما حولها يدور في فلكها كتابعٍ لها.. ولكن تطور المعرفة الإنسانية بالكون قد أثبت أن هذه الأرض ما هي إلا هباءة منثورة في الفضاء الكوني الشاسع الذي ينتظمه بناء محكم دقيق.. والكون مذهلٌ في اتساعه، مذهلٌ في دقة بنائه وفي وحدة هذا البناء .. وهو يشمل أرضنا وقمرنا وغير ذلك من الكواكب، والكويكبات والأقمار والشهب والنيازك والنجوم، ما ندرك منها ومالا ندرك مما يتَّسعُ له الفضاء الكوني ولا يعلم له الإنسان حدوداً.

ويتشكَّلُ هذا الكون من مجموع الموجودات الكائنة وما يرتبط بها من قوى وعمليات متباينة في المكان والزمان، ولما كان ذلك يشمل فيما يشمل كل المعارف الإنسانية المختلفة؛ فقد خرج الناس عن هذا المفهوم الواسع إلى مدلول أكثر تحديداً، يقتصر على ذلك النظام الشامل للأجرام السماوية المدرك منها حسيّاً وغير المدرك… أشكالها وأحجامها.. مادتها وصفاتها.. أبعادها وقوى الترابط بينها.. بناؤها والهيئات المختلفة التي تنظمها.. وفوق ذلك كله أصلها وعمرها.. ماضيها ومصيرها.

وإن لله تعالى كتابين وكونين: الأول (القرآن الكريم) كتاب الله المسطور، والثاني (الكون) كتاب الله المنظور، فهما متطابقان ومتناسقان؛ لأن مصدرهما واحد، فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الكون والإنسان، فالقرآن يقود إلى الكون، والكون يقود إلى القرآن، ويُفسِّر أحدهما الآخر، حتى قال أحد العلماء: “إن القرآن كون الله المسطور، والكون قرآن الله المنظور”.

وفي هذا السياق عقد ابن تيمية كتاباً بعنوان “مطابقة صريح المعقول مع صحيح المنقول”(1)، وصحيح المنقول: هو القرآن الكريم وما صحَّ من الحديث النبوي الشريف (العلوم الشرعية)، وصريح المعقول هو (العلوم الكونية).

والفرق بين القرآن والكون وعلومهما: أن القرآن الكريم هو السابق وهو الأصل كونه كلام الله الأزلي فهو الحقيقة المطلقة والثابتة، أما الكون فهو اللاحق والفرع لأنه مخلوق وحادث، وكل حادث متغير.

وبمعنى آخر: إن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى وإن الكون هو المعجزة الصغرى، وحيث إن مصدرهما واحد كما ذكرنا، فينتج عن ذلك حصول التوازن والتطابق بينهما؛ فالله سبحانه وتعالى أنزل وحيه وجعله محكماً، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وهو كذلك خَلقَ كونه بصورة دقيقة ومتوازنة وحكيمة، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].

فجعل تعالى الإحكام والإتقان والتوازن والتناسق في كلامه وفي خلقه على حد سواء لذلك قال عز وجل: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6].

وقال عن خلق الإنسان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7].

وهو توازن بين الكون والوحي، توازن يستمر لآخر الزمن وكلاهما يدل على الآخر ويوصل إليه.

وليس للمسلم أن يدير ظهره للكون الواسع الممتد الذي سخّره الله للإنسان وما فيه من أسرار وعبر، وما فيه من آيات وحكم، تدل على وجود العليم الخبير.

{وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].. عدد نجوم السماء

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8].. “أبعاد العين ..”(2).

وإن أول آية نستفتح بها صلاتنا هي: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]؛ وهي تشير إلى ربوبيته تعالى للكون الواسع، وفاتحة الكتاب هي أكثر سورة يتلوها المسلمون في جميع حياتهم. ولولاها ما صحت صلاة ولا قبلت تلك الفريضة ولا أقام المسلم ذلك الركن العظيم من أركان الإسلام.

عبودية الإنسان والكون :

أشارت الآيات القرآنية إلى أن هذا الكون كله وبما فيه ذرية بني آدم عليه السلام خلقوا ابتداءً طائعين عابدين لله ساجدين له مسبحين بحمده، وأن حركة الإنسان المسلم عند عبادته لخالقه تنسجم انسجاماً كاملاً مع تسبيح السماوات والأرض وسجودها وعبوديّتها، وما فيهما من أفلاك وكواكب وشموس ومخلوقات ودواب وملائكة لله رب العالمين.

فكل شيء في هذا الكون منقاد لقوانين معينة وسنة كونية معينة، أوجدها الله تعالى، فالشمس وا لقمر والأرض والنجوم والجبال و الماء والهواء والنبات والإنسان والحيوان والأنهار وكل الموجودات تخضع خضوعاً اضطراريّاً لقاعدة معينة ولنظام قدّره الله لتسير عليه هذه المخلوقات: وذلك في غاية الخضوع والذل، فكل مخلوق تواضع لعظمة الله وذلّ لعزته، واستسلم لقدرته، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. {ولله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49].

قال الشيخ محمد جواد مغنية: “كل كائن علوي، في السماوات أو في الأرض هو آية تقول لا إله إلا الله؛ وكل مخلوق يسبح بالدلالة على وجود خالقه، وتسبيح كل شيء بحَسَبه. فالعاقل يسبح بلسان المقال، وغيره بلسان الحال، وكأنه يقول: أُومِنُ بمن أوجدني، وأُنزِّهُه عن العجز والنقص”(3).

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26]، والقنوت هو دوام الطاعة.

 

الهوامش:

(*) ورقة مقدمة بمناسبة اليوم العلمي لقسم اللغة العربية في جامعة الحسين بن طلال – 22/4/2009م.

1- مطابقة صريح المعقول مع صحيح المنقول – أحمد بن تيمية.

2- كيف نتعامل مع القرآن / الشيخ محمد الغزالي – ص 210-211- مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي – ط 4 – 1993.

3- أسرار الكون في القرآن الكريم – د. داود سلمان السعدي – ص 209 – دار الحرف العربي – بيروت – لبنان – ط2 – 1999م. ')}

القرآن والإنسان والكون

  قال تعالى: ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [غافر:57].

الكون هي كل ما خلق الله – سبحانه وتعالى – في عالم الشهادة ، أو العالم الذي نحسّه بحواسنا أو ندركه بما يقوم مقام الحواس ويعزّز وظائفها من أجهزة وأدوات مثل الميكروسكوبات التي تيسر رؤية الأجسام الدقيقة ، والتلسكوبات التي تمكن الرائي من من رؤية الأجسام البعيدة ، أو غير ذلك من مما لم يتمكن الإنسان من بعد من إدراكه والتعرف عليه في هذا الكون الفسيح الذي لا يعلم مداه إلا الله وحده.

والكون هو عبارة عن وجود كل شيء في العالم،  وهو مرادف للوجود المطلق،  ومعناه السماوات والأرض وما بينهما . . .  من مجرات وبروج ، ونجوم ، وكواكب ، وكل ما خلق الله من شيء؛  البشر، والجمادات،  والنباتات،  والحيوانات والدواب، والأرض والقمر والكواكب، والنجوم والمجرات، والفضاء، والمادة، والمادة المضافة،  وتاثيرات القوى الكونية والمضادة.

ومن الجدير بالذكر أن معظم النظريات والفرضيات والقوانين والتقسيمات الخاصة بموضوع الكون والفلك قد وضعت بصورة علمية جادة في الثلاثة قرون الماضية؛ بدءاً من فرضية نيكولا كوبرنيكس التي حطمت فرضية بطليموس القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، وكذلك حطمت الآف الأوهام والأساطير والخرافات التي كانت محور التفكير في موضوع السماء والأجرام السماوية منذ فجر الحضارة الإنسانية وحتى عهد قريب.      كما ظل موضوع الكون حتى عهد قريب سرا غامضا جداً ً ومنغلقاً لا يعلم أحد عن تفاصيله الدقيقة الكثيرة، وذلك لانعدام الوسائل التكنولوجية المعقدة جداً، بدءاً من منظار جاليليو جاليلي البسيط التركيب في أوائل القرن السابع عشر الميلادي، ووصولاً إلى التلسكوبات العملاقة التي تتحرك بالمحركات الكهربائية وتدار بأجهزة حاسوب ضخمة ورحلات ومجسات الفضاء، إضافة إلى الأقمار والمركبات الصناعية التي تغرق المراكز العلمية بملايين الصور من أغوار الفضاء السحيق.

ولا يزال العلماء لا يعرفون فك لغز كنه الكون ؟ ولا كمية الطاقة فيه ؟! وما إذا ما كان مفتوحا إلى ما لا نهاية؟!  أم أنه كون مغلق ؟ وهل تبدأ كتلته  في إعادة ضم المجرات المتمددة؟  وغيرها من عشرات الأسئلة.

ولأهمية المادة الكونية فقد أقسم سبحانه وتعالى بكثير من صورها المختلفة؛  شمسا وقمرا، نجما ومواقع النجوم، أرضا وبحرا وجبلا،  ليلا ونهارا،  ضحى وفجرا، رياح عاتيات وخيلا عاديات.

ولعل من دلالة  القسم الإلهي بهذه المواد الكونية في صورها المختلفة  حثّ الإنسان على التفكر فيها، وعلى دراستها والتعرف على ما فيها من حقائق وأسرار دالة على عظمة الخالق - سبحانه وتعالى – وقدرته، فهي في جميع أشكالها مسخرة من قبل الله تعالى لاستخدام الإنسان، بما يحقّق إعمار الأرض، وهي كالإنسان ابتداء مخلوقة ولم تك شيئا، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.

ويتجلى إعجاز القرآن الكريم في آياته المتصلة بطبيعة وماهية الكون كما يتجلى في تناوله المواضيع الأخرى كافة. وحتى عهد قريب كانت آيات الإعجاز العلمي في القرآن تحظى بتفسيرات تتوازى مع مقدار المعرفة المتواجدة في القرون الغابرة، والتي نمت ببطء وتعرضت لعثرات كثيرة حتى جاء القرنان الأخيران بالثورة العلمية التي اجتازت بآلاف المرات الكمّ المعرفي للبشرية في كل أحقابها منذ ظهور الإنسان. أليس بعجيب جداً ومبهر لو وضعنا الآيات العلمية الواردة في هذا الكتاب وبدأنا نمحصها علمياً في ضوء تلك المعرفة أن نجد أن هذا الكتاب قد احتوى تقريباً على خلاصة كل النظريات التي أفنت أجيال من جهابذة العلم حياتها في كل مكان لتصوغ تلك الحقائق، وذلك في زمان يبعد عن زمان تنزيل هذا الكتاب باثني عشر قرناً على الأقل؟.

ومن العجيب أيضاً أنه لا توجد آية قرآنية واحدة تصوّر الكون أو خلقه بأي شكل خرافي مثل العمالقة البشرية أو الحيوانية التي تحمل الأرض، أو تصوّر الكون كشجرة عملاقة وفروعها هي الأرض والأجرام الأخرى وغيرها من الخيالات التي فرضها النقص التكنولوجي، وكانت سائدة في زمان تنزّل القرآن، وظلّت كذلك لأكثر من ألف سنة بعده . . كذلك لا توجد فكرة تعاقب صنع الله للمكونات الكونية واحدة بعد الأخرى مثلما هي في الكتب السماوية المحرّفة مما يجافي العلم، بل إن العلمية متزامنة ومتداخلة لا يمكن فصل مراحلها في تعاقب متتالٍ أو في انفصال زمني.

 والكون والقرآن الكريم والسنة المطهرة هي مصادر إلهام العلماء ، في حين تقابل النظريات  العلمانية نفسها  في مأزق في مواجهة عمق الكون ومكوناته ، و تبقى الآيات القرآنية منجما إعجازيا متجددا لسنن الله في الكون بقدر إدراكنا للأشياء  لأنها نزلت من  العليم الخبير _ خالق السماوت والأرض _ ؟!  فالحركة الكونية في بساطتها وتعقيداتها  –  هي حركة بتدبير من الله  سبحانه وتعالى ، وبقدرته، وبعظمته . . " ألا له الخلق والأمر "  [الأعراف : 54] . . " يدبر الأمر " [الرعد – 2 ]، " إن العزة لله جميعا " : [  يونس 65 ].

وقراءة الكون والغوص في جواهر مفرداته من خلال القرآن الكريم . .  تقدم للمسلمين وغيرهم علما يقينيا . .  ودليلا على قدرة  وإبداع الخالق  . .  ودليلا على صدق رسالة الإسلام.

   والإنسان في المفهوم الإسلامي جزء لا يتجزأ من الكون ، والمخلوقات جميعها؛ إنسانا . . وحيواناً . . ونباتاً . . وجماداً . . وسماء  . . وشموسا . . وأفلاكا تتّحد بنظام وانسجام وتوافق بديع في عبادة الخالق والتسبيح له والسجود لعظمته، قال تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )

[ الإسراء - 44] ، وخروج الإنسان بكفره أو عدم عبادته ، لا يؤدي به إلا إلى الشقاء والعذاب : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) [ الحج – 18].

فالدين في حقيقته تعبير عن هذه العلاقات الكونية  المتشابكة بين الجزء والكل التي تصل بين المرء ونفسه ، وبينه وبين مجتمعه وبينه وبين الطبيعة والكون ، وبينه وبين خالق الكون فيتّم التناسق والانسجام  بين  الفرد والوجود ، وذلك الدين القيم الذي يرتكز عليه نظام الكون سواء كان ذلك في شكله المادي القائم على قوانين الطبيعة أو في شكله المعنوي القائم على قوانين علم الاجتماع البشري ، ولن يتحقّق هذا التكامل  بين الإنسان والكون إلا بنظرة شاملة للوجود ولما وراء الوجود ، تضع الإنسان في موضعه الصحيح من هذا النظام الإلهي اللامتناهي الذي إن أدرك الإنسان جزءاً  محدداً منه، فمعظمه غيب في علم الله الله خالق العالمين.

بواسطة |2022-02-13T15:27:01+03:00أغسطس 15th, 2018|
اذهب إلى الأعلى